لا نهاية في الأفق: صدمة النزوح المتكررة تنهك سكان غزة
منذ اندلاع الحرب المروّعة في غزة بفلسطين قُتِل ما لا يقلّ عن 38,000 فلسطيني أكثرُ من نصفِهم نساءٌ وأطفال كما جُرِح 87,000 آخرين. أما أولئك الذي نجوا من انفجارات القنابل والقصف والأعيرة النارية التي تنهال عليهم بلا هوادة، فقد دفعوا مقابل حياتهم تنقلًا مستمرًا من مكان إلى آخر حاملين ما تيسَّرَ لهم من احتياجات أساسية. لكنّ شهادات فريق أطباء بلا حدود والمرضى التي وردت على مرّ الأشهر التسعة الماضية تكشف بوضوح عن عدم وجود أي مكان آمن في غزة.
تعمل فرق أطباء بلا حدود في أنحاء قطاع غزة على تأمين الرعاية الأساسية والمنقذة للحياة للمصابين في الهجمات الإسرائيلية الشعواء، ويضطرون هم أيضًا إلى الفرار للنجاة بحياتهم.
كان كامل* الذي يعمل ممرض طوارئ وحيدر* المسؤول عن حراسة الأمن من أفراد فريقنا المعني بعلاج الإصابات البليغة في مستشفى الشفاء في مدينة غزة عندما رزحت تحت القصف في شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني. وقد اضطرا مجتمعين إلى النزوح 18 مرة لغاية اليوم.
يقول كامل، “حين بدأت الحرب بقينا في بيتنا لمدة أربعة أيام. كان أطفالي يستيقظون من نومهم وقتها وينتظرونني كي أعود وأحتضنهم وأهدئ من روعهم، وكنت أشتت انبتاههم وأقول لهم إنها ألعاب نارية وليست قنابل. كان الوضع صعبًا للغاية”.
نزحت قسراً ثماني مرات خلال هذه الحرب. هناك مصاعب الحياة اليومية، وقلة النوم، والخوف الشديد... فقدت عدداً كبيراً من أفراد عائلي المقربة، حوالي 25 شخصاً. فقدت قرابة 400 شخص من عائلتي، وخمسة من أصدقائي.
أُصيبَ سطحُ المبنى الذي يعيش فيه كامل بصاروخٍ أطلقته مسيّرة في اليوم الخامس من الحرب. فانتقل برفقة أطفاله إلى مكتب أطباء بلا حدود، ليعيش مع باقي أفراد الفريق، بمن فيهم حيدر الذي ظلّت زوجته وأطفاله في بيتهم الواقع في حيّ أكثر أمانًا في شمال غزة.
واصل كامل وحيدر وغيرهم من أفراد طاقم أطباء بلا حدود عملهم اليومي في عيادة الحروق التابعة للمنظمة وفي مستشفى الشفاء الذي كان مكتظًا بمرضى يعانون من حروق شديدة وإصابات بالشظايا.
يشرح كامل قائلَا، “المرضى الذي رأيتهم خلال هذه الحرب يختلفون عن الحروب السابقة، فمعظمهم يعاني من حروق عميقة ومن إصابات بالشظايا، كما فقد كثر أطرافهم أو أصيبوا بجروح ملتهبة. ولن أنسى رائحتها التي تذكرني برائحة الزيت الفاسد”.
ويقول حيدر، “كنا نستقبل 30 إلى 40 مريضًا يوميًا في العيادة، كما كنّا نعمل في مستشفى الشفاء ونعالج العشرات هناك. بقينا على هذه الحال لمدة 40 يومًا إلى أن صارت الأوضاع خطيرة للغاية. فقد بدأ الجيش الإسرائيلي بالتحرك صوب مستشفى الشفاء، باتجاهنا”.
وبحلول أوائل نوفمبر/تشرين الثاني كان في عيادة أطباء بلا حدود وسكنها ما لا يقل عن 75 شخصًا على الأقل بين عاملين في أطباء بلا حدود وأفراد أسرهم، وكانوا يحتمون من القتال المستشري في الخارج.
ويشرح حيدر، “كانت الأوضاع سيئة حقًا، وكنا جميعًا خائفين. فإذا ما فتحنا الباب نرى نيرانًا وأعيرة نارية. وكانوا يطلقون النار على الناس في الشارع”.
على مدار الأسابيع القليلة التالية، تدهورت الظروف المعيشة للفريق بوتيرة سريعة.
ويتابع حيدر قائلًا، “لم يكن لدينا ما يكفي من المياه لنغتسل أو نشرب خلال تلك الأسابيع. ولم يكن لدينا ما يكفينا من الطعام. ثم نفذت منا المياه تمامًا بعد مرور أسبوعين”.
وصارت أوضاع فريقنا في مدينة غزة لا تطاق في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، إذ كان القتال والقصف محيطًا بمستشفى الشفاء وسكن أطباء بلا حدود ومكتبها وعيادتها، فتقرَّرَ إجلاءُ الجميع.
توجّهت قافلةٌ تابعة لأطباء بلا حدود باتجاه جنوب غزة في 18 نوفمبر/تشرين الثاني، علمًا أن تنظيمها تمّ بمواقفة السلطات الإسرائيلية. لكن بعد منعها من عبور الحواجز الإسرائيلية الواقعة على الطريق إلى الجنوب، أُجبرت القافلة على أن تعود أدراجها.
وكان كامل وممرض أطباء بلا حدود علاء الشوا في إحدى سيارات القافلة برفقة أسرتيهما. وبينما هم في طريق العودة، على بعد 500 متر تقريبًا من عيادة أطباء بلا حدود، شاهدوا دبابات إسرائيلية خارج مستشفى الشفاء وقناصة على أسطح الأبنية المجاورة.
في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، منع القصف المكثف والمتواصل في مدينة غزة آلاف الفلسطينيين من مغادرة المنطقة المحيطة بمستشفى الشفاء بأمان. ولم يتوقف الفريق - الذي يضم حاليًا أكثر من 30 شخصًا - عن علاج المرضى خلال ما يصفونه بأنه أصعب أيام حياتهم.
عندها فتحت القوات الإسرائيلية نيرانها على السيارة وأصيب علاء بطلقٍ ناري في رأسه. وفي هذا الصدد، يقول كامل، “مرت الرصاصات بالقرب من جبهتي، واخترقت إحداها رأس علاء”.
ويضيف، “كان منحنيًا ورأسه مائل باتجاه مقود السيارة، بالقرب من ذراعي، وكان من الصعب عليّ مواصلة القيادة. كانت الدماء في كل مكان في السيارة. حاولت جاهدًا أن أنعطف يمينًا باتجاه مكتب أطباء بلا حدود وألحق بالسيارات الثلاثة الأولى التي تمكنت من الانعطاف قبل أن يبدأ إطلاق النار”.
نجا كامل وباقي من كان في القافلة من إطلاق النار وتمكنوا من الوصول إلى عيادة أطباء بلا حدود الآمنة نسبيًا. وبعد أن ركنوا السيارة حملوا علاء من مقعده إلى العيادة، لكنّهم لم ينجحوا في إنعاشه.
ويقول حيدر، “حين رأيت بأنه فارق الحياة، اعترتني صدمة كبيرة. لم أستطع أن أتمالك نفسي أو أن أفكر وانهرتُ على جانب الطريق”.
ظلّ فريق أطباء بلا حدود وأفراد أسرهم في العيادة والسكن خلال الأيام التالية. وفي هذه الأثناء، جاءت القوات الإسرائيلية إلى خارج العيادة ترافقها جرافة، فدفعت بسيارات أطباء بلا حدود التي استُعملت في القافلة حتى تلاصقت ثم أحرقتها.
وبعد بضعة أيّام مرعبة شهدت إطلاق النار قرب سكن أطباء بلا حدود وعيادتها، أُعلن عن وقف مؤقت لإطلاق النار بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة وقد دخل حيز التنفيذ في 24 نوفمبر/تشرين الثاني. فانسحبت القوات الإسرائيلية من المنطقة وتم ترتيب قافلة جديدة بالتنسيق مع السلطات الإسرائيلية، ما سمح لفريق أطباء بلا حدود وأفراد أسرهم بالتوجه جنوبًا بنجاح هذه المرة.
وحين وصل فريق أطباء بلا حدود إلى جنوب غزّة مكثوا في ملجأ اللوتس التابع لأطباء بلا حدود في مدينة خان يونس وتابعوا عملهم. كان كامل يذهب يوميًا إلى مستشفى غزة الأوروبي ليقدّم الرعاية للمصابين بجروح بليغة إذ كانوا يصلون بأعداد كبيرة. فيما واصل حيدر قيادة السيارة ونقل الفرق الطبية إلى المستشفى الإندونيسي والاهتمام بالشؤون الأمنية.
ولكن ما لبث حيدر أن تلقّى أنباءً مفجعة بعد أسبوع.
ويوضح، “بدأت وقتها معاناةٌ من نوعٍ جديد، إذ تلقيت خبر مقتل أختي وأطفالها في مدينة غزة. فدخلت في حالة اكتئاب. ثم قُتلت ابنة أخي وأطفالها”.
ويضيف، “ثم في الجنوب، قتل ابن أخي وزوجته وأطفالهم بعد أن اجتاحت الجرافة بيتهم. قتل عشرون فردًا من عائلتي ذلك الأسبوع. حزنت جدتي وسرعان ما فارقت الحياة هي الأخرى. اسودّت الدنيا في عينيّ حين حدث كلّ هذا، لكنني حاولت مواصلة عملي”.
في الثامن من يناير/كانون الثاني، أي بعد حوالي شهرين على وصول كامل وحيدر إلى جنوب غزة، أصابت قذيفة من دبابة إسرائيلية ملجأ اللوتس وقتلت ابنة أحد أفراد الفريق وهي في الخامسة من عمرها كما جرحت ثلاثة آخرين. وبعد الهجوم نُقل ما يزيد عن 125 شخصًا من فريق أطباء بلا حدود وأسرهم إلى الكلية العربية للعلوم التطبيقية في رفح، والتي تبعد كيلومترًا واحدًا عن الحدود المصرية، ومكثوا هناك لمدة شهرين.
ويقول حيدر، “كنا نعيش في خوفٍ دائم، لكن لم يكن أمامنا خيارٌ آخر، إذ استمر القصف وإطلاق النار، حتى أنهم قصفوا بناءً مجاورًا لنا فأصيب مبنى الكلية بشظية. بقينا على حالنا لمدة، إلى أن أعلنوا عن اجتياح رفح”.
منذ اجتياح رفح، لم يتوقف كامل وحيدر عن النزوح من مكان لآخر شأنهم شأن آلاف الفلسطينين الآخرين بسبب القصف والهجوم المتواصل في مناطق جنوب ووسط القطاع.
يتنقّلُ حيدر من مكانٍ لآخر في منطقة المواصي، ويعيش في خيمة.
ويقول، “نزحت قسرًا ثماني مرات، بمعدل مرّة شهريًا، وكان آخرها قبل يومين. لم أنم لمدة 24 ساعة لأننا كنا نتنقل من مكان لآخر بسبب الانفجارات. لا أكفّ عن التفكير بزوجتي وأطفالي في شمال غزة، وأعاني يوميًا”.
يعيش حيدر وآلاف الأشخاص المضطرين إلى مواصلة التنقل في ظروف مأساوية.
ومنذ أن أُجبر كامل وأطفاله على ترك رفح، تنقّلوا أكثر من مرة في منطقة المواصي وبالقرب منها وفي مخيم البريج ومناطق وسط القطاع. يُشار إلى أنّهم يقيمون في البريج حاليًا ويؤكد كامل أن لا مأمن في غزة من القصف.
ويشرح، “لا يوجد مكان آمن والظروف مروعة. ليس لدينا ما يكفينا من الغذاء والماء والدواء والملابس، ولا توجد أي أحذية. لا يوجد أي شيء. يعزّ عليّ أن أرى أطفالي في هذه الحال”.
لا يعرف كامل ماهيّة الصدمات النفسية التي تعرّض لها أطفاله جرّاء ما مروا به.
ويقول، “هذا الوضع يؤدي إلى الصدمات. فيوم أمس، كان أطفالي يلعبون مع أبناء أخي وسمعتهم يروون لهم ما حدث مع علاء. ولا يكفّون عن سرد قصة علاء. ما زالت الصدمة تتملّكهم إلى اليوم”.
تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن 90 في المئة من سكان غزة نزحوا مرّة واحدة على الأقل منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس، علمًا أن معظمهم مجبرون على العيش في ظروف مروّعة. لا يأمل حيدر سوى أن يلتم شمله بأسرته في مدينة غزة وبأن ينتهي حمام الدم هذا.
.
* غُيّرت الأسماء لحماية الهوية.