متاح أيضاً باللغة
مستشفى على قضبان.. مشاهدات من رحلتي على متن القطار الطبي في أوكرانيا
بقلم*: ياسر كمال الدين
بدأت كتابة هذه الخواطر بعد مرور شهر على إنهاء مهمتي وعودتي إلى القاهرة، وقد أتاحت لي هذه المدَّة إعادة ترتيب أفكاري واسترجاع الأحداث التي شهدتُها على مدار الأسابيع الخمسة التي أمضيتها في أوكرانيا. كانت هذه المهمة من أقصر المهمات التي عملت فيها بالميدان خلال قرابة العشر سنوات التي أمضيتها في مجال العمل الإغاثي، إلاَّ أنها رغم قصرها كانت الأغنى بالأحداث على الاطلاق.
في الثالث عشر من شهر مايو، وصلت إلى مدينة لفيف غرب أوكرانيا، بعد رحلة طويلة، سافرت خلالها من القاهرة إلى العاصمة البلجيكية بروكسل، ومنها لبولندا، ثم أكملت الرحلة براً إلى غرب أوكرانيا، وأنا أفكر في القطار الطبي الذي قرأت وسمعت عنه كثيراً في الأسابيع السابقة لالتحاقي بالبعثة. يعمل هذا القطار الطبي – الذي هو الأول من نوعه لمنظمة أطباء بلا حدود – على نقل المرضى من المستشفيات الأوكرانية المثقلة بالأعباء بسبب قربها من مناطق الحرب النشطة إلى المستشفيات البعيدة عن القتال التي تتوفر فيها القدرة الاستيعابية اللازمة. لم أكن قد رأيت مثيلاً له خلال عملي في المجال الإغاثي سواء في مناطق النزاع المسلح أو غيرها. تسميات عدَّة أطلقت عليه، “القطار الطبي” و”مستشفى على قضبان” و”كبسولة الهروب” ما حمسني لخوض هذه التجربة كأنها أول مهمة ميدانية لي.
لفيف مدينة صغيرة جميلة، تقع بالقرب من الحدود الغربية لأوكرانيا مع بولندا، بدا الجو العام فيها هادئاً جداً ولا يعكس المشهد فيها خطورة الحرب. رأيت المارة في الشوارع يتجولون بين المطاعم والمتاجر كأن ما من تأثيرٍ على سكان هذه المدينة. توجست من هذا الهدوء الخادع، ولم يكد ينتهي اليوم حتى سمعت دوي صافرات الإنذار في كل أرجاء المدينة مبشرة باحتمال وقوع غارة جوية روسية. توقفت المطاعم عن خدمة زبائنها وأغلقت أبوابها واتجه بعض المارة بهدوء لمنازلهم، بينما أكمل البعض الاخر تجوله في الشوارع غير عابئ بالإنذار.
سبقَ أن عايشت قدرة الشعوب على التكيف مع أهوال الحروب في أماكن أخرى عملت بها مثل أفغانستان والعراق، ولكن كانت أسابيع قليلة قد مرَّت على اندلاع الحرب، فتوقعت وضعاً ً أكثر حدة. ولكن علمت فيما بعد أن سكان المدينة اعتادوا أصوات صافرات الإنذار التي تتكرر بشكل يومي لتنبيه الناس بضرورة إخلاء الشوارع فورًا والاحتماء من غارة محتملة على الرغم من أنَّ لفيف تبعد عن المواجهات اليومية في شرق البلاد أكثر من ألف كيلومتر.
40 إلى 60 ساعة رحلة القطار الطبي في أوكرانيا
بعد تمضية ليلة واحدة في لفيف، اتجهت مع أفراد الفريق لنستقل القطار الشهير. كنت قد علمت أن الفريق يبيت في المدينة بعد كل رحلة ويستغل هذا الوقت للراحة والاستحمام قبل الانطلاق لرحلة إخلاء جديدة. تستغرق الرحلة الواحدة نحو عشرين ساعة من لفيف لمدن الشرق الواقعة على خط المواجهة مثل خاركيف ودنيبرو وبكروفسك. فيما يستغرق مجموع الرحلة الواحدة ذهاباً وإياباً ما بين الـ 40 والـ60 ساعة، وقد تطول المدَّة إنْ كان علينا إرسال المرضى إلى أكثر من وجهة أو تقصر إذا كان الاجلاء من مدن خط المواجهة مباشرة الى لفيف.
قبل وصولي إلى أوكرانيا، سمعت من زملائي في بروكسل عن امتلاك هذا البلد لشبكة من أعقد وأكبر شبكات القطار في القارة بأكملها. وكانت فكرة هذا النشاط الإغاثي بسيطة وعبقرية في الوقت نفسه، فهو يعتمد على قطار عادي من الخارج، لا يوحي بأي شيء غير اعتيادي، شكله متطابق مع قطارات الركاب الكثيرة، ولكنه يحتوي من الداخل على تجهيزات تمكن الفريق الطبي من نقل نحو ٣٠ مريضاً ومريضة من من شرق البلاد إلى غربها والعكس.
“البابوشكات” يواجهنَ كل يوم تأثير الحرب على حياتهن
يضمُّ القطار أطباءً وطاقماً تمريضاً وأخصائياً لوجستياً ومترجمة بالإضافة اليّ أنا كمنسقاً ميدانياً. كان جزء من الفريق يستريح في لفيف حين يعمل ما بين ١٨ و٢١ فرد من باقي الفريق على القطار كل رحلة.
كان القطار بمثابة مستشفى صغير متنقل، مجهَّز بـ ٣٠ فراشاً طبياً معدين لرعاية المرضى خلال الرحلة الطويلة، فيما طوَّر الفريق اللوجستي لأطباء بلا حدود عربة كاملة لتصبح وحدة رعاية مركزة تتسع لخمسة مرضى من ذوي الحالات الحرجة مع معظم التجهيزات المتواجدة في وحدات الرعاية في المستشفيات مثل شبكة كاملة لإنتاج وتوصيل الاوكسجين وجهازان للتنفس الصناعي.
تبدأ التجهيزات للرحلة بإخطار من وزارة الصحة الأوكرانية والمستشفيات الواقعة بالقرب من خط المواجهة، على أن تتبعها زيارة استطلاعية من أحد زملائنا الأطباء المقيم في مدينة قريبة من الاحداث. نحصل على عدد تقريبي للحالات المطلوب نقلها لغرب أوكرانيا مع وصف عام للوضع الصحي واحتياجات هؤلاء المرضى الذي قد ينقص أو يزيد عددهم خلال الرحلة. كان هذا الكم من المعلومات كافياً لإخطار الفريق للاستعداد لرحلة جديدة. كنا نجتمع في محطة القطارات قبل موعد الرحلة بنصف ساعة لنستقل القطار الطبي فور وصوله. كانت رحلة الذهاب مخصصة لتجهيز القطار والاستعداد لاستقبال المرضى في كافة مقصورات القطار الخمس المخصصة للمرضى. فيما كان كل اثنان او ثلاث من طاقم الفريق يتشاركون مقصورة المعيشة نفسها في الليلة الأولى من الرحلة، مدركين أنَّ الليلة التالية ستكون خالية من الراحة لأن الطاقم الطبي يتقاسم ساعات العمل الليلية للإشراف على المرضى. باختصار، كان النوم صعباً طوال الرحلة!
ولكن، كان فريق القطار من أروع من عملت معهم في مسيرتي المهنية، أغلبهم يعمل في وظيفة أخرى توقف عن أدائها مؤقتا ليلحق بالقطار الطبي الذي يساعد في تقديم الخدمات الطبية. شعرت من محادثاتي مع أفراد الفريق ان سبب وجودهم على متن القطار نابع من يقينهم بأنَّ لكل شخص دوراً في مجتمعه وقت الكوارث. يفخر أفراد الفريق بدورهم في الحرب على الرغم من صعوبته وخطورته. وكان يصدف أكثر من مرة أن يلتقي أحد افراد الفريق بشخص من مسقط رأسه يتم إخلائه بواسطة القطار الطبي أو يعلم بأنَّ له معارف وأصدقاء مشتركون بينه وبين أحد المرضى. أغلب أفراد الفريق كانوا بدورهم متأثرين بالحرب ونازحين هم أو أهلهم من مدنهم وقراهم لاماكن أكثر امانا. كان القطار مسرحاً يومياً للقصص الإنسانية المشتركة بين الأطباء والممرضين والمرضى طوال رحلة الاخلاء.
خلال وجودي تمكنا من إخلاء نحو ٢٠٠ مريض ومريضة أغلبهم مصابو حرب جراء انفجارات او شظايا. كان يطلق الفريق على أغلب مرضانا تسمية «بابوشكا»، أي الجدة باللغتين الروسية والاوكرانية. في كثير من الأحيان كنا نعود بقطار مليء بالـ«بابوشكات»! هؤلاء الجدات كنَّ يقاومن كل يوم تأثير الحرب على حياتهن. أغلبهن كن يرفضن ترك منازلهن منذ بدء الحرب ولكنهن اضطررنَ لتركها كمرضى بعد الإصابة. في تلك الفترة، نزح اغلب سكان القرى القريبة من خط النيران وبقي من لا يملك من الأموال ما يكفي للرحيل ولا أقرباء خارج القرية لاستضافته، هذا إضافة إلى أنَّ أغلب الـ«بابوشكات» رفضنَ ترك مكان ولادتهن. قالت لي إحداهن «سوف أعود لمنزلي في أقرب وقت ممكن، لم أكن اريد ترك بيتي أبداً و لكني الآن مضطرة لذلك”.
ساق مقابل أرنب
قص عليَّ بعض المرضى كيف غيرت الحرب حياتهم وأخبار أحبائهم الذين خسروا حياتهم بسبب الحرب. أحد المرضى كان عامل بناء في أواخر الأربعينيات من عمره من سكان إحدى القرى في شرق مدينة خاركيف، كان قد فقد أباه وأمه قبل الحرب وبقي وحده في منزله. لم يكن لديه سبب لترك منزله الصغير حتى مع اقتراب الاشتباكات ودوي الصواريخ. لم يكن لديه زوجة أو طفل يخاف عليهم وكان منزله وقطعة الأرض الصغيرة أمامه كل ما يملك في هذه الحياة. سمع دوياً قريباً ذات يوم، ثم آخر أقرب وبعده دوي انفجار أطاح به عدة أمتار وكسر ذراعيه. استرسل وهو يخبرني تفاصيل ما جرى معه وكأنها قصة شخص آخر. “لم أكن أعلم ما ينبغي علي فعله للاحتماء من القذائف. كنت قد رأيت كيف لقيَ جيراني حتفهم، اب وام و٤ أطفال، وهم محتمون بقبو منزلهم. دفنتهم القذائف تحت الأنقاض. لم أكن أعلم إذا كنت آمناً في العراء، ولكني كنت متيقن من أني لا اريد لنفسي نهاية تشبه مأساة تلك الأسرة». مريضة أخرى من مصابي الحرب مازحتني وهي على الفراش وإحدى ساقيها مبتورة والساق الأخرى مصابة جراء التعرض المباشر لانفجار والإصابة بشظايا: “كنت أُحضر أرنباً من الحظيرة لتجهيز وجبة العشاء لأصدقائي، كان هذا أغلى أرنب في حياتي، أرنب واحد مقابل ساق”. ابتسمت على الرغم من الألم الواضح على معالم وجهها بالرغم من مسكنات الألم. كان أبوها السبعيني يرافقها في الرحلة وينظر اليها بمزيج من الحزن والفخر وهي تروي لي كيف انتهى بها الحال على متنِ هذا القطار. قال لي بعيداً عن ابنته «سوف تعبر تلك الأزمة، انها امرأة قوية، لقد ورثت صلابتها مني».
العمل على مساعدة الأشخاص الأكثر حاجة أينما كانوا
كعامل إغاثة، أفكِّر دوماً في حال المحتاجين للمساعدات الإنسانية على جانبَي النزاع في بلدانِ كثيرة من حول العالم. لطالما واجه العمل الإنساني هذا التحدي، أي أن يكون قادراً على إيصال المساعدات الانسانية الضرورية للمحتاجين بغض النظر عن العرق او الدين او الانتماء السياسي في الحروب.
في سياق الحرب الروسية الأوكرانية، وعلى الرغم من تواجد أطباء بلا حدود في روسيا منذ عام ١٩٩٢، وحتى كتابة هذه السطور لا تستطيع فرق المنظمة الوصول للناس المتواجدين في مناطق سيطرة روسيا والمجموعات المدعومة من روسيا في أوكرانيا. في أماكن عدة حول العالم تضيق باستمرار مساحة العمل الاغاثي خلال الحروب، أي أن تكون قادراً على الوصول للمحتاجين وإنقاذ أراوح المتضررين من النزاعات المسلحة من دون تمييز.
الوداع
خمسة أسابيع أمضيتها في هذه البعثة، قبل أن أبدأ بترتيب اشيائي للعودة للقاهرة. ذهبت ليلة سفري لحضور حفل صغير أعده فريق القطار لتوديعي وشاركتهم شعوري، كيف كان لكلٍ منهم تأثير على رؤيتي لواقع المعاناة من جراء الحرب، وكيف انبهرت من الروح الرائعة السائدة بين أفراد الفريق على متنِ القطار.
على الرغم من بعد المسافة بين مصر وأوكرانيا، الا ان الحرب في أوكرانيا كانت موضع اهتمام جميع وسائل الاعلام بلا استثناء. وانا أجهز نفسي للعودة خطرت في بالي أسئلة كثيرة، كيف لكافة التحليلات الجيوسياسية، وتفاصيل أسباب اندلاع الحرب وتأثيراتها من عضوية الناتو وتجارة النفط لرغيف الخبز، أن تفسر المعاناة والقصص الإنسانية التي عاشها الاشخاص الذين قابلتهم على متنِ القطار، لم أصل لإجابة! سأكتفي بالذكريات الطيبة التجربة الثرية والعلاقات الإنسانية التي سأحتفظ بها بعد هذه البعثة. وها أنا أودِّع الفريق وأعود إلى أرض الوطن في انتظار مهمة جديدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ياسر كمال الدين صيدلي وعامل إغاثة من مصر، انضم لأطباء بلا حدود عام 2012 وعمل في مجال إدارة العمليات الإغاثية كمنسق مشروع ورئيس بعثة في بعثات مختلفة، منها مصر، لبنان، العراق، افغانستان، سوريا، اليونان، كينيا وأوكرانيا. يشغل حاليا منصب رئيس بعثة أطباء بلا حدود في مصر. حصل ياسر على درجة البكالوريوس في الصيدلة من جامعة القاهرة والماجستير في الأنثروبولوجيا من جامعة كوليدج لندن.