متاح أيضاً باللغة
بين القيود والتعنيف: قصة مصورة عن العاملات والعمال المهاجرين في لبنان
في لبنان، استُخدم مصطلح “السريلانكية” للإشارة إلى عاملات المنازل المهاجرات – بغض النظر عن جنسياتهن – والذي يعكس أصل معظم العاملات الوافدات في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومع تغير أنماط الهجرة، أصبح مصطلح “الإثيوبية” أكثر شيوعًا.
لا تختزل هذه التسميات الأفراد في جنسياتهن فحسب، بل تعزز الصورة النمطية بأن الأشخاص من هذه الخلفيات هن بطبيعتهن عاملات منازل. والمقلق أكثر هو الإيحاء بأن هذا العمل مهين بشكل أو آخر، ما يزيد من تهميش أولئك اللواتي يقمن بهذه الأدوار الأساسية.
عندما يشارك العمال المهاجرون والعاملات المهاجرات في لبنان قصصهم مع طاقم أطباء بلا حدود، فالعنصرية والتمييز هي السائدة ضمن الخطوط العريضة. ترسّخ سوء معاملتهم واستغلالهم لدرجة تكررت فيها القصص الأشد إثارة للصدمة.
تقاطعت دروب خمسة نساء مع فرق أطباء بلا حدود في بيروت، وهن أهمِت* وبياتريس ومارتا* ومَقدِس* وتيغيست*، وسيشاركننا قصصهن ههنا.
*غُيّرت الأسماء حمايةً للهوية

أهمِت*
تذكر أهمِت يوم وصولها إلى لبنان من بنغلاديش قبل ثماني سنوات. اهتم مكتب ببلدها بمعاملات سفرها، واصطحبها شخصان من المطار في بيروت. ادعيا أنهما سيقدمان طلبًا لحصولها على الإقامة، ولكنهما هربا بكل أموالها.
أدركت عندها الحقيقة. فهي لن تحصل على تأشيرة للعيش أو العمل في لبنان، وعليها أن تجد كفيلًا ستضطر على الأرجح للعيش معه. لن تكون لها حرية اختيار نوع العمل الذي يناسبها وستضطر إلى العمل في المنازل. وُعدت بحياة أفضل في لبنان لكن ذلك سرعان ما تلاشى هذا الحلم.
بدأت أهمِت بالقيام بأعمال مؤقتة حيثما وجدت، مثل كي الملابس وغسل الصحون. تحسنت أمورها عندما قام زوجها بالرحلة نفسها إلى لبنان بعدها بعام ونصف.
تقول أهمِت، "كسب زوجي مبلغًا جيدًا من عمله في أحد الفنادق، وتمكنّا من تغطية تكاليف ولادتي في مستشفى خاص. منذ قرابة عام، اعتُقل لعدم حمله تصريح عمل ساري المفعول. وأمضى أربعة أشهر في السجن في لبنان قبل أن يُرحّل إلى بنغلاديش".
تعاني أهمِت من مشاكل مزمنة في القلب تفاقمت بعد ولادتها لطفلها الذي يبلغ عمره اليوم عامان. زارت عدة أطباء قبل أن يتمكنوا من تشخيص حالتها. وأدويتها باهظة الثمن وغير متوفرة في أي مركز صحي. وهي تعاني كي تشتريها من الصيدلية، لذلك يرسلها زوجها أحيانًا من بنغلاديش.
تضيف أهمِت، "غدا طلب الرعاية الصحية تحديًا وأنا عاطلة عن العمل. أنا أستنفد حاليًا مدخراتنا وأقبل المساعدة من الآخرين للبقاء على قيد الحياة. أحتاج إلى نفقات الرعاية الصحية والإيجار والفواتير والحليب والحفاضات لطفلي. كان العام الماضي شديد الصعوبة عليّ، في ظل غياب زوجي وبعد أن عشت حربًا".
تعيش أهمِت وابنها في شقة صغيرة على السطح مع سبعة أشخاص آخرين. يقع منزلها في الطابق السابع، ولذك يصعب عليها صعود السلالم ونزولها.
"أنا حرّة، لكنني أشعر بأنني في سجن. لا أعرف شيئًا عن العالم الخارجي. عقلي يدور باستمرار. يقلقني كل شيء. إذا توقف قلبي، ماذا سيحدث لابني؟"

بياتريس
في ضاحية بيروت الجنوبية، تستصعب بياتريس صعود الدرج المؤدي إلى منزلها. في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2024، خلال القصف الإسرائيلي العنيف في لبنان والذي استمر شهرين، كانت بياتريس في عملها تنظف أحد المنازل. حبسها صاحب عملها في الداخل. رأت قنبلة سقطت على مبنى قريب، فاتبعت غريزتها وقفزت هاربة من الشرفة. كسرت كاحليها واحتاجت إلى عناية طبية طارئة.
روت بياتريس قصتها في المنزل على وقع مسيّرات الاستطلاع الإسرائيلية، ما ذكّرها باليوم الذي أصيبت فيه.
تقول بياتريس، "أخبروني في المستشفى الأول أنهم لن يعالجوني إذا لم أحمل مالًا. اتصلت صديقاتي بإحدى المنظمات لمعرفة ما إذا كان بإمكانهم دعم علاجي. في النهاية، غطّت تلك المنظمة إلى جانب أطباء بلا حدود [تكلفة] الجراحة والأدوية وفترة التعافي التي استغرقت شهرين في المستشفى".
تبلغ بياتريس من العمر 29 عامًا، وهي من سيراليون، وجاءت إلى لبنان عام 2022. يعيش طفلاها مع والدتها في بلدها. وهي معيلة عائلتها الوحيدة، لكنها كغيرها من العمال المهاجرين في البلاد، تعمل فوق طاقتها وتتقاضى أجرًا زهيدًا. وهي بالكاد تستطيع تدبير مصاريفها الخاصة للأساسيات مثل الطعام والإيجار. وبالكاد تكفي الخمسون دولارًا المتبقية من راتبها لتبقي أسرتها على قيد الحياة.
عاشت بياتريس الأشهر الثلاثة الأولى في لبنان مع صاحب العمل وعائلته. كان عليها أن تعتني بثلاثة أطفال بالإضافة إلى تنظيف ثلاثة منازل بانتظام.
لم تتمكن بياتريس للأسف من العمل منذ إصابتها، وتراكمت عليها الديون لدفع إيجار المنزل الذي تتشاركه مع ثلاث نساء مهاجرات. وعلى الرغم من المواقف الصعبة التي تعرضت لها، تحب بياتريس وجودها في لبنان. وتحلم أن توفّر ما يكفي من المال لبناء ميتم في سيراليون لمساعدة الأطفال في الحصول على المأوى والتعليم الذي يستحقونه.
وتختم قائلة، "أخشى الخروج من المنزل. فلا أذهب إلى أي مكان إلا للعمل. وإذا واجهتني مشكلة، فهذا ليس بلدي ولا يمكن لعائلتي أن تساعدني".
قالت، "كانت صاحبة العمل تصرخ في وجهي. وعندما كان يسيء أحد الأطفال التصرف وأضطر إلى رفض طلباته، كانت تهدد بقتلي. كانت تقول ’ليس الأطفال الأفارقة مثل الأطفال اللبنانيين‘، ولكن ألسنا جميعًا بشرًا بألوان بشرة مختلفة؟"

مارتا*
انتقلت مارتا من مسقط رأسها في منطقة تيغراي بإثيوبيا إلى العاصمة أديس أبابا آملة بإعالة أسرتها. كانت تعمل في أحد الفنادق نهارًا وتدرس الإدارة ليلًا. فقدت وظيفتها ذات يوم، فقررت السفر إلى لبنان.
قبل عام ونصف، ومباشرةً بعد وصولها إلى لبنان، أرسلتها صاحبة العمل للعيش مع والديها المسنَين ومرافقهما. على مدار الأشهر الثلاثة التي عاشتها مارتا في ذلك المنزل، عانت من التحرش الجنسي من المرافق، لكن لم يصدقها أحد.
وحتى بعد تسجيلها مقطع فيديو للتحرش لم يُحاسب الجاني، وغُضّ النظر عن تجربتها. ثم أُرسلت للعيش في منزل صاحبة العمل مع غيرها من العمال المهاجرين.
تقول مارتا، "كانت صاحبة العمل تصرخ في وجهي إذا طلبت منها أي شيء أو طرحت عليها سؤالًا. أساءت معاملتي، وكثيرًا ما أخّرت دفع راتبي. لم تصدق أنني تعرضت للتحرش الجنسي. حتى أنها لم تصدقني عندما أخبرتها أنني مريضة".
أصيبت مارتا بألم شديد في الكلى، ومرة أخرى غُضّ النظر عن ألمها. رفضت صاحبة العمل في البداية أخذها إلى الطبيب. وعندما حاول أحد الوسطاء إقناعها بأن مارتا مريضة بالفعل، كان ردها، "هي مسجّلة باسمي [قانونيًا]، فهي ملكي، وسآخذها إلى أي مكان أريده". وعندما لم تعد مارتا قادرة على المشي، أُخذت أخيرًا إلى الطبيب. كان عليها أن تعود إلى عيادة الطبيب لمتابعة حالتها، لكن صاحبة العمل حرمتها من هذا الحق، فمرضت مجددًا.
تضيف مارتا، "كان المنزل تحت الحراسة على الدوام، ولم أستطع الهرب. أخبرت صاحبة العمل أنني بحاجة إلى تجديد جواز سفري، فأخذتني إلى السفارة، ولم أعد من بعدها. أنا في هذا الملجأ منذ شهر وأريد العودة إلى وطني".
على الرغم من المصاعب التي واجهت مارتا البالغة من العمر 25 عامًا، فهي لا تحمل أي ضغينة. تقول، "لقد عانيت، نعم، لكنني أقول إنني تعلمت من تجاربي. لا أملك قرشًا واحدًا، لكنني على الأقل أنقذت عائلتي من الجوع. وبغض النظر عما سيحدث، سيظل الحب في قلبي دومًا، وهذا أكثر ما أحبه في نفسي".

مَقدِس*
تجلس مَقدِس البالغة من العمر 22 عامًا في غرفة طعام الملجأ الذي قضت فيه الأشهر الأربعة الماضية. هنالك باب مكسور يرتطم باستمرار بفعل الرياح، ومع كل ارتطام تجفل مَقدِس قافزةً في مقعدها.
عندما ادخرت مَقدِس وعائلتها مالًا لبدء مشروعهم الخاص في إثيوبيا، لم يكن المبلغ بين أيديهم كافيًا. كانت تعرف أشخاصًا يعملون في لبنان، فقررت القيام بالرحلة نفسها على أمل أن تكسب ما يكفي من المال لإعالة أسرتها.
أجبرتها العائلة الأولى التي عاشت معها في لبنان على العمل في ظروف مستحيلة. تقول مَقدِس، "في ثقافتنا، يجب أن يُقدَّم لك الطعام لتأكلي. لكنهم لم يهتموا أبدًا أو حتى يسألوني إن كنت قد أكلت". كانوا عائلة كبيرة يأكلون جميعًا معًا، وكان على مَقدِس أن تنظّف قبل كل وجبة وبعدها على معدة فارغة. تضيف، "طوال الأيام الخمسة عشر التي قضيتها في ذلك المنزل، كنت أنتظر حتى ينام الجميع لأختلس بعض الخبز أو برتقالة. كنت أعيش على الفتات".
خلال آخر ثلاثة أيام من عملها هناك، أبقاها الإرهاق طريحة الفراش. فحبستها صاحبة العمل في غرفتها لأنها لم "ترد" أن تعمل. أخذوها بعد ذلك إلى المكتب الذي أحضرها إلى البلاد، وانتقلت للعمل عند عائلة أخرى.
ولكن للأسف، كانت تجربتها مع العائلة الثانية أصعب عليها. كانت صاحبة العمل تصرخ في وجهها دائمًا، وتصفعها على يدها "لتعلمها" العمل، وتخيفها من باب التسلية.
تقول مَقدِس، "كانت صاحبة العمل الثانية تخيفني على الدوام. كانت تقول لي، ’انظري كيف تخلصوا من عاملتهم المهاجرة، سأفعل معك ذات الشيء‘. أثناء الحرب، كانت تجبرني على مشاهدة أخبار الغارات الجوية على التلفاز وتهددني برميي في المناطق المستهدفة. كانت تشتمني وتهينني باستمرار".
رفضت صاحبة العمل السماح لمَقدِس بالاتصال بأهلها، لأنها "مجرد خادمة ولا يجب أن تُدلّل". منعت صاحبة العمل مَقدِس من ارتداء الملابس التي أحضرتها من بلدها. حتى أنها أجبرتها على الذهاب إلى الحمام وقص جزء كبير من شعرها دون موافقتها.
توضح مَقدِس، "كان شعري طويلًا. قصّته صاحبة العمل عدة مرات دون إذني. أنا خائفة من ردة فعل عائلتي في إثيوبيا. ففي ثقافتنا، قص الشعر يعني أنني أقمت علاقة أو فعلت شيئًا أسوأ من ذلك. ستكون سمعتي سيئة للغاية".
وبعد كل المصاعب التي مرّت بها مَقدِس، فهي لا تريد سوى العودة إلى وطنها. طلبت مساعدة سفارتها وهي في الملجأ بانتظار سفرها. تقول، "في إثيوبيا، لم أخفْ من شيء. أمّا بعد الفترة التي قضيتها في لبنان، أجفل لأبسط شيء. وعندما أشعر بالخوف أو التوتر، تتسارع دقّات قلبي إلى أن أغيب عن الوعي".

تيغيست*
تيغيست عاملة مهاجرة منذ أكثر من عقد من الزمان. عندما كان عمرها 14 عامًا فقط، هاجرت من إثيوبيا إلى السودان أملًا في إعالة أسرتها. وبعد أن أمضت خمس سنوات هناك عاملةً في أحد المطاعم، لم تعد تجني مالًا، فتوجهت إلى لبنان.
وفي سن التاسعة عشرة، عاشت تيغيست لأربعة أشهر مع عائلة رب عملها. سُمح لها بكمية قليلة من الطعام والماء لا تأخذها إلا بعد ساعات طويلة من العمل وهي جائعة وعطشى. كانت تعطى ساندويشات تجبرها ربة العمل على تناولها بسرعة حتى تواصل العمل. حُرمت من أي فترات راحة أو أيام إجازة، فهربت.
بعد ذلك، تابعت تيغيست العمل بشكل مستقل كعاملة نظافة، ما يعني أنها لم تكن مرتبطة بأي عقد. ومع عدم وجود كفيل، كانت معرضة لخطر الاعتقال والترحيل.
تيغيست اليوم في الثلاثين من عمرها، وقد أمضت 11 عامًا في لبنان. منذ قرابة خمس سنوات، وقعت في حب رجل سوداني وتزوجته. لم ترغب إلا برفيق وسند لها. ولكن بعد أن أنجبت طفلهما البالغ من العمر عامين الآن، أصبح زوجها يسيء معاملتها، خاصةً عندما يسكر. كان يضربها ويسيء معاملتها باستمرار، إلى أن جاء يوم طردها وابنهما من المنزل، فأصبحا بلا مأوى.
كانت تيغيست تطمح لأيام أفضل إذا استقرت، والآن تأمل أن يرى ابنها أيامًا أفضل تُلبى فيها احتياجاته ولا تشعرها بالعجز. أمضت تيغيست الأشهر الستة الماضية في ملجأ السفارة، ولا تريد سوى العودة إلى وطنها.
تقول تيغيست، "أريد أن أفتتح مطعمي الخاص في إثيوبيا إذا تمكنت من جمع ما يكفي من المال. لم أرَ والدي منذ فترة طويلة جدًا، وأنا أفتقده بشدّة. أتمنى أن أوفر أفضل حياة لابني. أنا أعمل بجدّ ولا أستسلم أبدًا أو أضعف أمام المصاعب".
تقول تيغيست، "فقدت القدرة على إعالة نفسي وابني. فنحن نعتمد على العون من الآخرين، من السفارة أو المنظمات. ولا أحد يعطيني أي عمل لأنني لا أستطيع اصطحاب ابني معي. أشعر بالخوف والخذلان، وكأن إنجاب الطفل كان خطأً. تخلى الجميع عني بعد أن أنجبت طفلي. لا يرانا هذا العالم [نحن العاملات المهاجرات] كبشر".
التقطت الصور المصورة ميريم بولس.
وُلدت ميريم بولس عام 1992 في لبنان. وعلى عمر السادسة عشرة، بدأت باستعمال كاميرتها لتقترب خطوةً من الحقيقة. تخرّجت ميريم من الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة بدرجة ماجستير في التصوير الفوتوغرافي عام 2015. وشاركت أعمالها في معارض داخل لبنان وخارجه، من بينها معرض Close Enough (قريب بما فيه الكفاية) في مركز التصوير الدولي بنيويورك، ومعرض Infinite Identities (هويات لا متناهية) في متحف هاوس مارسيليا في أمستردام، والبينالي الثالث للمصورين الفوتوغرافيين من العالم العربي في معهد العالم العربي في باريس.
نُشرت صورها في مجلات ومواقع مثل “أبرتشر” و”فوم” والتايم و”فوغ” العربية و”جي كيو” الشرق الأوسط و”فانيتي فير” الفرنسية وغيرها. وفي عام 2020، شاركت في تأسيس مجلة “الحيّة” الصادرة بالعربية والإنجليزية والتي تركز على المحتوى الأدبي والبصري الذي يعكس اهتمامات النساء وتجاربهن ونضالهن في المنطقة، حيث عملت محررة الصور. في عام 2021، انضمت ميريم إلى وكالة “ماغنوم” كعضو مرشح.
صدر كتابها الأول بعنوان “ما لنا” عن دار “أبرتشر” في عام 2023، وفي العام نفسه حصلت على زمالة ويليام يوجين سميث المرموقة في التصوير الإنساني.