أطباء بلا حدود توفر الرعاية الطبية لطالبي اللجوء العالقين في هولندا

أطباء بلا حدود توفر الرعاية الطبية لطالبي اللجوء العالقين في هولندا

أمستردام، 25 أغسطس/آب 2022 – ستباشر منظمة أطباء بلا حدود بدءًا من اليوم بتوفير الرعاية الطبية لمئات الأشخاص الذين تقطعت بهم السبل في هولندا أمام مركز الاستقبال الأساسي في تر آبل. وفي هذا السياق، تدعو المنظمة الدولية والطبية الحكومة الهولندية إلى توفير القدرة على الوصول إلى الرعاية الطبية وتحسين ظروف الأشخاص الذين يضطرون إلى النوم في العراء أمام المركز المكتظ.

في يوم الجمعة الماضي، أجرى فريق من أطباء بلا حدود تقييمًا للوضع خارج مركز الاستقبال في بلدة تر آبل، علمًا أنها تشكل نقطة الدخول الأولى للاجئين إلى هولندا، إذ أمسى المركز مكتظًا بالكامل ويعجز عن تلبية الاحتياجات الأساسية للوافدين الجدد. ومن بين الأشخاص الذين يعيشون في ظروف مهينة وغير إنسانية في الساحة أمام مركز الاستقبال نساء حوامل وأطفال ومرضى مصابين بأمراض مزمنة (كالسكري)، مع العلم أن الأدوية قد نفذت من بعضهم. هذا ولا تتوفر أماكن للاستحمام ولا يُعتنى بما يكفي بالمراحيض القليلة المتوفرة في الساحة. والجدير ذكره أن الخيم ومواد الإيواء المؤقتة قد أزيلت من الموقع، وبات الناس ينامون على الأرض ويتحملون ما ينطوي على ذلك من آثار. وقد شهدت منظمة أطباء بلا حدود كيف يعاني الناس من أمراض جلدية والتهابات الجهاز التنفسي العلوي والتهابات المسالك البولية والإسهال والتقيؤ والمشاكل النفسية ومشاكل في الأسنان وإصابات أخرى من شتى المستويات. ويكمن القلق الأكبر في ما قد يفضي إليه استمرار هذا الوضع من طوارئ طبية حرجة.

إنها المرة الأولى التي توفر فيها أطباء بلا حدود المساعدة الطبية في هولندا. لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي ونتفرج على هذا الوضع غير الإنساني وغير المقبول الآخذ بالتدهور.
جوديث سارغنتيني، مديرة منظمة أطباء بلا حدود في هولندا

توفير الرعاية الطبية الأساسية

بعد إجراء المشاورات مع السلطات المعنية والصليب الأحمر، أرسلت أطباء بلا حدود فريقًا طبيًا إلى هولندا ليبدأ العمل بصورة فورية على توفير الرعاية الصحية الأساسية للأشخاص الذين يلتمسون اللجوء في هولندا عبر مركز استقبال تر آبل. وسيعمل فريق طبي خارج مركز الاستقبال لعلاج الأمراض والإصابات وضمان مواظبة الأشخاص المصابين بأمراض مزمنة على تناول أدويتهم، وفرز المرضى الذين يحتاجون إلى الإحالة إلى المستشفى أو الخضوع للعلاج في المركز الصحي، وتوفير الإسعافات النفسية الأولية للراشدين والأطفال.

الحاجة إلى حل بنيوي

تقول جوديث سارغنتيني، “هنا، تجدر الإشارة إلى أن استجابتنا ليست إلا تدبير لسد الفجوة القائمة. وعليه، لا بد للحكومة الهولندية والبلديات المحلية أن تعمل بصورة عاجلة على تحسين الظروف المعيشية لهؤلاء الأشخاص وتحمل مسؤولية توفير الرعاية الطبية للأشخاص الأكثر حاجة. هذا ولا بد من إرساء حل بنيوي على غرار توفير مواقع استقبال متعددة تؤمن ظروفًا إنسانية. والجدير ذكره أن الحكومة الهولندية قد دُعيت إلى اتخاذ هذه الإجراءات منذ أعوام”.

مليون روهينغي يقاسون ظروفًا صعبة مع مرور خمس سنوات على عمليات قتل الروهينغا

مليون روهينغي يقاسون ظروفًا صعبة مع مرور خمس سنوات على عمليات قتل الروهينغا

يصادف اليوم مرور خمس سنوات على الأحداث المروعة التي شهدتها ولاية راخين في ميانمار، والتي قُتل خلالها آلاف الروهينغا على يد جيش ميانمار. خلال هذه الأحداث، وثقت منظمة أطباء بلا حدود وحدها وقوع 6700 حالة قتل عنيف في المنطقة.

وهرب إثر هذه الأحداث أكثر من 700,000 شخص إلى بنغلاديش لينجوا بحياتهم وانضموا إلى أقرانهم الذين دفعتهم حلقات عنف سابقة إلى التماس اللجوء في البلد المجاور، حتى بلغ عدد الذين تقطعت بهم السبل في منطقة كوكس بازار في بنغلاديش مليون شخص.

في ما يلي بعض الشهادات التي يرويها لاجئون روهينغا في مخيم كوكس بازار، علمًا أن حاجتهم إلى الرعاية الصحية والمياه وخدمات الصرف الصحي والحماية ما زالت تسجل مستويات هائلة، في وقت لا يُلقى فيه بالٌ إلى جذور هذه المشاكل المتمثلة في انعدام الجنسية.

طيبة بيغوم، هربت من ميانمار في العام 2017 مع أطفالها

“لم يتجاوز عمر ابنتاي التوأم، نور أنكيس ونور باهار، الستة أشهر عندما هربنا من ديارنا في ميانمار. فعندما بدأت عمليات القتل، لم نستطع البقاء في ميانمار لفترة أطول نظرًا للقتل الوحشي وحرق المنازل الذي مارسه الجيش البورمي بحق الروهينغا.

عندما هربت مع أطفالي الرّضع، عبرنا الأدغال والطرقات الموحلة تحت المطر للوصول إلى بنغلادش. وبعد الوصول إلى الحدود، كان الناس يحطون رحالهم أينما توفر لهم ليستريحوا، لكن المكان كان بعيدًا كل البعد عن كونه مأوى. كنا نتناول ما نجد من الطعام لنبقى على قيد الحياة، حتى أن التعب أعيى ابنتاي وكانتا تتقيآن كلما حاولت إطعامهما. لقد عانتا لفترة طويلة، فالعثور على دواء كان في غاية الصعوبة عندما وصلنا.

بعد بضعة أيام من وصولنا [إلى كوكس بازار]، بُنيت أماكن للإيواء باستعمال البامبو وقطع القماش. واليوم، بتنا نعيش في مخيمات للاجئين. مرّت خمس سنوات وما زالت الظروف القاسية على حالها.

إننا نعتمد على ما نتلقاه من مساعدات غذائية ويساورنا قلق كبير عندما نفكر بما سنوفره من الطعام لأطفالنا وكيف سنؤمن لهم الملبس والتعليم.

أتوق إلى حلول السلام. إذا تمكنا من أن نعيش بسلام من جديد في ميانمار، فإننا سنعود إلى البلد. ولمَ لا نعود إذا ما تحققت العدالة ومُنحنا حق المواطنة؟ أوليس ذاك البلد وطننا أيضًا؟ ولكن كيف لنا أن نعود وأبسط حقوقنا غير مضمونة؟ أين سنمكث بعدما دمّرت منازلنا؟ كيف لنا أن نعود بينما يُقتل أطفالنا ويؤخذون منا؟

لا مانع لدينا في البقاء هنا أو في نقلنا إلى بلد آخر، لكننا لن نعود إلى ميانمار ما لم تأخذ العدالة مجراها”.

أنور، 15 عامًا، هرب من العنف في ميانمار

“اسمي أنور. أنا طالب من ميانمار. هربنا من حيّنا في ميانمار وانتقلنا إلى مخيم جامتولي للاجئين في بنغلاديش.

أتذكر عندما هربت من ميانمار مع عائلتي. كنا في فترة ما بعد الظهيرة، وكان الجيش قد هجم على حينا مجبرًا إيانا على الفرار إلى منطقة مجاورة. وعندما أحرقوا منزلنا، أجبرنا على الهرب إلى منطقة أبعد. لقد نجونا في حين لقي الكثير من أقاربنا وجيراننا حتفهم.

خضنا رحلة طويلة للبحث عن الأمان. أتذكر أن الوصول إلى بنغلاديش استغرق 12 يومًا من الركض والمشي في رحلة محفوفة بالمخاطر، إذ عبرنا طرقًا غير مألوفة وتسلقنا الهضاب ومررنا عبر المياه. حتى أننا رأينا الكثير من الجثث على طول الطريق. 

كنت طالبًا في المدرسة عندما هربنا، وعندما أتيت إلى هنا لم أعد أتلقى أي تعليم. كنت طالبًا مجتهدًا أحصد درجات عالية. أحب أن أتعلم، لكنني لم أعد أستطيع أن أدرس أو أحصل على الكتب التي أحتاجها.

كنت أحلم أن أصبح طبيبًا، وأن أعود بالمنفعة على مجتمعي. فمنذ طفولتي، رأيت أطباءً يساعدون الناس ويبذلون قصارى جهودهم لتوفير المساعدة. أدرك الآن أن هذا الحلم قد لا يتحقق أبدًا. وعلى الرغم من ذلك، ما زلت أشعر بالسعادة عندما أحضر الصفوف وأرى رفاقي. نحاول أن نكون سعداء عندما ندرس ونلعب.

حياتنا في المخيم ليست سهلة. فالحوافز التي يتلقاها والدي لا تكفي لإعالة عائلتنا. وفي بعض الأحيان، عندما أعود من المدرسة إلى البيت في الليل، أشعر بانعدام الأمان.

أودّ أن أوجّه رسالة إلى الشباب حول العالم. اغتنموا الفرصة المتوفرة لكم وتعلموا ما أمكنكم تعلمه. فأنا وأقراني من اللاجئين الروهينغا لا نحظى بهذه الفرصة”.

محمد حسين، 65 عامًا، هرب من ميانمار منذ خمسة سنوات

“ذات صباح [من العام 2017]، سمعنا صوت إطلاق نار. وفي ليل نهار الخميس، أطلقت أعيرة نارية من مركز عسكري على مقربة من منزلنا. وفي الصباح التالي، سمعنا أن أشخاصًا من الروهينغا قد قُتلوا.

تملكنا خوف كبير، إذ كان الجيش يعتقل الناس ويقتلهم في كل مكان. وما كان منا إلا أن هربنا لننجو بحياتنا ووصلنا إلى بنغلاديش. حالفنا الحظ وتمكنا من الوصول إلى هنا ونحن ما زلنا على قيد الحياة. إن بنغلاديش تقدم لنا الكثير وتقف إلى جانبنا.

عندما وصلنا إلى هنا، كنا مفعمين بالأمل. لكننا بتنا نشعر وكأننا عالقون. أمست الحياة في غاية الصعوبة. وأشعر بالقلق إزاء مستقبلنا، لا سيما أن أطفالنا لا يتلقون تعليمًا مناسبًا. وسواء بقينا في بنغلاديش أو عدنا إلى ميانمار، لا يسعنا أن نفعل الكثير في ظل عدم الحصول على تعليم؟ تقض هذه الأفكار مضجعنا في الكثير من الليالي.

أتلقى الرعاية الطبية في مرفق أطباء بلا حدود في المخيم نظرًا لإصابتي بمرض السكري وارتفاع ضغط الدم. ولا يتوفر العلاج لمرض الكلى الذي أعاني منه في المخيم. لقد أصبحت كبيرًا في السن وقد اقترب أجلي. لكن هل تراني سأتمكن من رؤية وطني قبل أن ألقى حتفي؟ أتمنى أن ألفظ أنفاسي الأخيرة في ميانمار، مع أني غير متأكد من ما إذا كانت هذه الأمنية ستتحقق.

أحترق شوقًا لإعادتنا إلى موطننا ميانمار، شرط أن تُضمن حقوقنا وأن نحظى بالحماية من دون أن نقاسي المزيد من الاضطهاد. أخاف من مواجهة الاضطهاد من جديد في ميانمار. ونظرًا لأن عائلتانا تعيش في البلد، لا بد من أن نحرص على سلامتها.

يجب أن نتمكن من أن ندرس ونعيش حياة طبيعية وننتقل من منطقة إلى أخرى كأي مواطن في ميانمار. يجب أن نحظى بحق التصويت والمشاركة في الانتخابات والإجهار بأصواتنا في البرلمان.

في الوقت الحالي، وفي ظل سلبنا لجميع حقوقنا، لم نعد إلا جثثًا متحركة. لقد خُلق هذا العالم ليعيش فيه الجميع. واليوم، لا موطن لنا رغم كوننا بشرًا كغيرنا.

أتوجه لكل العالم لأقول إننا لا نقل إنسانيةً عن أحد. لقد ولدنا بشرًا، ونتمنى أن نعيش حياةً كريمة. نطلب من العالم أن يساعدنا لكي نتمكن من العيش كغيرنا من البشر. أمنيتي هي أن أتمتع بحقوقي وأن يحلّ السلام”.

غزة: محاصرة في دائرة من الدمار

غزة: محاصرة في دائرة من الدمار

كان صخر نائماً عندما أصابت قذيفة منزل عائلته في مدينة غزة، وحتى في ذلك الوقت كان يعرف بالضبط ما كان يحدث. كان ذلك قبل أن يفقد وعيه قبل أن يتم نقله إلى المستشفى وقبل أن يأتي ويدرك أنه قد نجى هو وعائلته مرة أخرى.

تصفح صخر الصور على هاتفه التي أرسلها له جيرانه أثناء جلوسه في عيادة أطباء بلا حدود في غزة في 10 أغسطس/ آب بعد خمسة أيام من القصف وبعد يومين من إعلان وقف إطلاق النار. والتي تظهره فاقداً للوعي هو وإخوته ووجوهم مغطاة بالدماء وغبار الأسمنت. تعجب من حقيقة أنه وعائلته ما زالوا على قيد الحياة.

لم ينج صخر البالغ من العمر ثلاثين عامًا وهو أب لأربعة أطفال من قصف أغسطس 2022 فحسب، بل نجا أيضًا من قصف آخر خلال حرب 2014 في غزة، حيث احتاج إلى ترقيع الجلد. اليوم ظهر صخر مغطى بجروح جديدة ومفتوحة وجاء مع شقيقيه الأصغرين الى عيادة أطباء بلا حدود والذان يعانيان من كسور وجروح خطيرة، وذلك لتغيير الضمادات الخاصة بهم.

وتعتبر عائلتهم من بين حوالي 350 غزيّاً أصيبوا بجروح خطيرة خلال جولة التصعيد هذه، حيث أنهم ينضمون إلى عدة آلاف آخرين أصيبوا أو حدثت لهم إعاقة في إحدى الحروب الخمس على غزة والتي وقعت في غضون 15 عامًا. وفي هذه المرة بحسب الأمم المتحدة فقد قُتل 49 مواطناً غزيّاً، بما فيهم 17 طفلاً.

يتذكر أشقاء صخر البالغان من العمر 22 و13 عامًا كيف تشكلت حياتهم من خلال اقترابهم من صدمات الحروب على الرغم من الانتقال المتكرر إلى الأحياء هربًا من الدمار.

يقول محمود الذي يبلغ من العمر 22 عامًا “كنت في الصف الرابع أثناء حرب 2008، أتذكر عندما كنا أطفالًا أننا اعتدنا على سماع الانفجارات ورؤية (الجثث).”

“رأينا مرة أخرى في عام 2012 العديد من الجرحى و (القتلى)، وفقدت العديد من أصدقائي في ذلك الوقت. وبعد ذلك فقد في تدمر منزلنا في (حرب 2014)”.

ويتذكر على مر السنين “رأينا مشاهد سيئة ومروعة، ولكن ليس مثل هذه”.

أدت دائرة الحروب المتكررة إلى إصابات جسدية ونفسية مضاعفة للمواطنين في غزة مثل صخر وإخوته. وأيضاً بالنسبة للعاملين في مجال الرعاية الصحية فأصبحت المشاهد في غرف الطوارئ مألوفة جداً لديهم.

كان الدكتور أسامة توفيق حمد طبيب التخدير يعمل مساء الجمعة عندما بدأ القصف على غزة. وحيث أنه طبيب في منظمة أطباء بلا حدود منذ عام 2019، قدم الرعاية للمرضى خلال حربين. ويصف كيف امتلأت غرفة الطوارئ في مستشفى العودة في غضون دقائق، واستقبلت أكثر من 15 مريضاً بينهم ستة أطفال. عالج طفلًا صغيرًا أصيب بشظية في الجمجمة وآخر مصابًا بكتلة دموية في الصدر، وكلاهما يتطلب جراحة عاجلة.

“كان لدينا في غزة (في السنوات الخمس عشرة الماضية) خمسة حروب، وفي كل مرة تحدث غارة جوية لدينا يتوافد عدد كبير من (الجرحى) إلى المستشفى في وقت واحد. حيث يمكن أن يكون لديك 50 مريضًا أو أكثر في وقت واحد. في هذه اللحظات يصبح لدينا مشاعر سيئة للغاية وغضب ومشاعر مختلطة، لكن يجب أن تكون قوياً للتعامل مع الحالات “.

يشير دكتور أسامة إلى حقيقة أنه بمرور الوقت بالنسبة للمرضى الناجين تصبح العودة إلى المستشفى، لمتابعة العمليات الجراحية والعلاج الطبيعي والدعم الذي يلي الإصابات النفسية والجسدية التي خلفتها الحرب، جزءًا من حياة اليومية للمرضى.

زميله شادي النجار الذي يشرف على قسم العلاج الطبيعي في مستشفى العودة مع منظمة أطباء بلا حدود على دراية بتردد المرضى الذين يأتون بشكل كبير بعد كل حرب.

“ما زلت أرى مرضى من تصعيد مايو الذي حدث في عام 2021 يتلقون إعادة التأهيل والعلاج الطبيعي. لدينا في قسمنا عدد كبير من المرضى إضافة إلى مرضى مسيرات العودة الكبرى. نحن الآن نجهز القسم، في المبيت و العيادات، لاستقبال المصابين من هذا التصعيد “.

عاد شادي إلى العمل لعلاج عبء الحالات الموجودة والجديدة بالرغم من التجربة الخاصة به في عطلة نهاية الأسبوع، حيث تعرض منزله لدمار جزئي في اليوم الثاني من الحرب، بينما تم إصابة منزل جيرانه. لم تُتح لعائلته فرصة الإخلاء قبل أن تتدمر غرفة ابنه البالغ من العمر 9 أشهر، وجده في مهده محاطًا بالزجاج والشظايا ولكن بدون إصابة. يقول إن ابنته الصغرى أصيبت بصدمة أيضًا.

“إنها غير قادرة على النوم وتبكي طوال الوقت وأحاول أن أكون داعماً لهم بقدر الإمكان.”

أكد صخر  مثل شادي على أن أحد أسوأ جوانب التأقلم مع التداعيات هو محاولة دعم أطفاله عاطفياً. “يبلغ عمر ابني الأكبر الآن 5 سنوات. وبعد هذا التصعيد، كان ابني يطلب مني إيقاف الحرب ويصرخ دائمًا في الليل ولم ينم لمدة ثلاث ليالٍ وعندما يكون نائمًا يستيقظ من الكوابيس ويبدأ في الركض ولا أعرف ماذا أفعل أو كيف يمكنني مساعدته”.

لقد كان لصدمة العنف المتكرر في غزة أثراً ملموساً على الصحة النفسية للأطفال والوالدين. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية في عام 2021، حيث ذكرت أن 82% من المراهقين في غزة يعانون من تدني عام إلى مستوى متدني جداً من الرفاهية النفسية. وينص تقرير الأمم المتحدة حول الاحتياجات الإنسانية لعام 2022 على أن أكثر من نصف الأطفال في غزة (53 بالمائة) هم في حاجة إلى حماية الطفل وخدمات الصحة النفسية. إضافة إلى أن  137000 من مقدمي الرعاية في غزة هم في حاجة إلى خدمات الصحة النفسية.

Website (2000 × 1333px) (2)

في الأيام التي أعقبت التصعيد، أعرب موظفو منظمة أطباء بلا حدود والمرضى مرارًا عن قلقهم على أطفالهم وغيرهم من الشباب في غزة الذين نشأوا أو سينشئون في بيئة يحدث فيها التصعيد بانتظام مزعج. وبعد تغيير ضمادات الجرح الخاص بوائل شقيق صخر ومحمود البالغ من العمر 13 عاماً، سأله أحد العاملين الداعمين في منظمة أطباء بلا حدود عما يريده في المستقبل.

قال: “أتمنى ألا تكون هناك حروب في المستقبل ويستمر الهدوء (في غزة) بدون قصف.”

“العودة إلى هايتي تعني الموت”

“العودة إلى هايتي تعني الموت”

مازال الهايتيون الذين يلتمسون اللجوء في الولايات المتحدة الأمريكية يرزحون تحت خطر الطرد والإعادة إلى بلدهم الغارق في الأزمات مع تحول عاصمته، بورت أو برانس، إلى ساحة حرب بين المجموعات المسلحة. وأجبر هذا الوضع آلاف الأشخاص على الهرب من منازلهم وقوض قدرة الناس على الوصول إلى الرعاية الصحية والخدمات الأساسية بشكل كبير.

وبين سبتمبر/أيلول 2021 ويونيو/حزيران 2022، طُرد أكثر من 26,000 شخص ينحدر من هايتي من الولايات المتحدة الأمريكية، من بينهم 4,000 شخص طردتهم الحكومة الأمريكية في شهر مايو/أيار وحده. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الإجراءات تُتخذ بموجب الفصل 42، وهو مرسوم صحة عامة يُحتكم إليه منذ بداية جائحة كوفيد-19 ويسمح بصد المهاجرين وطردهم بصورة سريعة، بما في ذلك الأشخاص الذين يلتمسون الحماية في الولايات المتحدة الأمريكية. وأدت هذه السياسة الكارثية إلى إغلاق باب اللجوء عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة الأمريكية وسمحت بتشريع أكثر من مليوني عملية طرد من الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي حين تم تعليق رحلات الترحيل الجوية إلى هايتي منذ يونيو/حزيران من دون أن يطرأ أي تغيير على السياسة الأمريكية، ما زال طرد الهايتيين الذين يصلون إلى الحدود الأمريكية أمرًا ممكن، علمًا أنهم يُرسلون إلى ما بات يُجزم أنها منطقة نزاع تستولي فيها المجموعات المسلحة على مناطق واسعة من العاصمة. ففي تاباري في بورت أو برانس، يعاني أكثر من نصف السكان الذين يقصدون مستشفى أطباء بلا حدود من جروح مهددة للحياة يعود سببها غالبًا إلى الأسلحة النارية شديدة القوة. وفي عام 2021، أُجبرنا على نقل برامجنا الطبية القائمة منذ فترة طويلة في المنطقة بسبب الاشتباكات المسلحة في حي مارتيسان وحي سيتي سولاي.

وهذا العام، وثقت الأمم المتحدة ارتفاعًا ملحوظًا في مستويات العنف، مسجلةً 934 عملية قتل و684 إصابة و680 عملية خطف في بورت أو برانس بين يناير/كانون الثاني وأواخر يونيو/حزيران. ويعيش معظم الأشخاص الذين فروا من العنف في مواقع نزوح غير منظمة في المدينة ويعانون من ظروف مروّعة. وخلال الأشهر الأخيرة، أدت الاشتباكات المسلحة إلى تدمير شبكات المياه من جديد وعرقلة طريق الشاحنات التي تنقل المياه في حي بل اير وغيره من الأحياء. وفي هذا السياق، تكيف فرق أطباء بلا حدود أنشطتها لمواكبة ارتفاع مستويات العنف وانعدام الأمان، وذلك عبر نشر فرق طبية متنقلة وتأمين مرافق مياه وصرف صحي.

ويقول منسق المشروع للبرنامج المعني بالعنف الحضري في بورت-أو-برانس، سيدريك شابون، “نشهد ارتفاعًا ملحوظًا في عمليات الخطف والقتل في المنطقة ويبلغ الناس أنهم أمسوا لا يشعرون بالأمان في منازلهم وأن مغادرة منازلهم باتت غير آمنة بتاتًا. هذا ويواجهون تحديات كثيرة للحصول على المياه. فمنذ بداية العام، نشهد انتشارًا لوباء الجرب، وهو أمر لم يعتد عليه السكان في هايتي ويعود سببه بشكل أساسي إلى شح المياه. فبينما يستطيع الناس تحمل تكاليف الحصول على كميات صغيرة من المياه الصالحة للشرب، فإنهم لا يتمكنون من الحصول على ما يكفي من المياه النظيفة للحفاظ على النظافة الشخصية”.

ويواجه موظفو أطباء بلا حدود مخاطر كثيرة في هذا الوضع، إذ أمسى بعضهم عالقٌ بسب أعمال العنف وباتوا غير قادرين على مغادرة منازلهم للتوجه إلى عملهم. وفي بعض المناطق، يضطر الموظفون إلى العمل في الأقبية وفي غرف من دون نوافذ تفاديًا لأية رصاصات طائشة.

المهاجرون الهايتيون يواجهون الخطر عند عبورهم أمريكا اللاتينية

توفر أطباء بلا حدود الرعاية الصحية الطبية والنفسية على طول طريق الهجرة الذي يمر بالأمريكيتين. وقد شهدت الفرق خلال السنوات العديدة الماضية ارتفاعًا في عدد الهايتيين الذين يحاولون الوصول إلى الولايات المتحدة.

وفي حين يلتجئ المهاجرون الهايتيون في أغلب الأحيان إلى شبكات دعم أو معارف من عائلتهم في الولايات المتحدة، إلا أن الفصل 42 يجبرهم على عبور طرق محفوفة بالمخاطر المتزايدة لبلوغ وجهتهم، فينطلقون من جنوب أمريكا ويمرون بغابة دارين شديدة الخطورة في بنما. وبين أبريل/نيسان 2021 ومطلع مايو/أيار 2022، عالجت فرق أطباء بلا حدود في بنما 417 امرأة تعرضت للعنف الجنسي من بين المرضى الذين قطعوا غابة دارين.

وتشكل الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة محطة المهاجرين الأخيرة. فعندما يصل المهاجرون إلى المدن الحدودية على غرار نويفو لاريدو وريينوسا، فإنهم ينضمون إلى مهاجرين آخرين ينتظرون عبور الحدود طلبًا للجوء في الولايات المتحدة في أغلب الأحيان. وفي هذا السياق، يُجبر المهاجرون غالبًا على النوم في الشوارع أو في أبنية مهجورة أو في مخيمات مؤقتة، فمراكز الإيواء في المنطقة لا تتسع لاستقبال هذا العدد المرتفع من الأشخاص. والجدير ذكره أن فرص الحصول على الرعاية الصحية والطعام والخدمات الأساسية محدودة في المنطقة. كما تسود مخاطر كثيرة في هذه المدن، لا سيما بالنسبة إلى المهاجرين، إذ ترتفع احتمالية تعرضهم لأعمال العنف كالخطف والعنف الجنسي. 

وفي هذا السياق، يقول ويسلي، وهو رجل من هايتي يبلغ من العمر 36 عامًا، وقد وصل إلى مدينة ريينوسا في المكسيك في أبريل/نيسان بعدما خاض رحلة طويلة من تشيلي مرورًا بأمريكا الوسطى والجنوبية، “وصلت إلى هنا مع عائلتي. لدي طفلين ونعيش في ظروف مروعة. نمرّ بفترة بالغة الصعوبة بسبب الحرارة. إننا ننام في الشارع حيث يمكن أن نتعرض لأي مكروه. وقد قال لي أحدهم أننا نتواجد في منطقة شديدة الخطورة. ويمكن لأي مكروه أن يحدث”.

ترك غالبية المهاجرين الذين تعاينهم فرق أطباء بلا حدود على طريق الهجرة هايتي منذ أعوام عديدة هربًا من العنف وانعدام الاستقرار العام. وفي المرحلة الأولى بعد هروبهم، يجد المهاجرون فرص عملٍ في تشيلي أو البرازيل، إلا أن عوامل عدة، منها الانكماش الاقتصادي وتعذر الحصول على وثائق تخولهم العمل بصورة شرعية والمشاعر المعادية للمهاجرين في هذه البلدان، دفعت الآلاف من الهايتيين إلى مغادرتها خلال الأعوام الماضية في محاولة للوصول إلى الولايات المتحدة.

وغادر أنتوغوما هونوراي ذو الـ 23 عامًا هايتي وتوجه إلى البرازيل عام 2019، لكنه لم يجد فرصة عمل في البلد. وعليه، شد رحاله وتوجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فمرّ بكولومبيا وأمريكا الوسطى قبل الوصول إلى المكسيك التي يمكث فيها منذ خمسة أشهر.

ويقول في هذا الصدد، “أنا هنا لأنني أرغب في الوصول إلى الولايات المتحدة الأمريكية ومساعدة عائلتي. يعيش أفراد من أسرتي في الولايات المتحدة الأمريكية بينما أنا وحيد هنا. ولا يتوفر أي مكان يمكنني أن أنام فيه. أمطرت السماء طوال نهار أمس، فاضطررت إلى النوم في المياه القذرة. لا أريد أن أعود إلى هايتي. فلا تتوفر المدارس هناك، ولا يتوفر الطعام أو فرصًا للعمل. إن العودة إلى هايتي تعني الموت”.

مهاجرون يُعاملون كالمجرمين

تقول لوكنسيا بول ذات الـ 28 عامًا وهي تستذكر رحلة عبورها غابة دارين في بنما، “من دون استراتيجية نافعة، لا يمكنك النجاة في هذه الغابة. تواجه المخاطر في الغابة بشكل كبير، إذ يعيش فيها حيوانات متوحشة وبعض الطرقات فيها غير سالكة أو يصعب المرور عبرها. هذا وتصل إلى مرحلة ينفذ فيها ما معك من طعام، فيتعين عليك أن تستجمع كل ما أوتيت من قوة لتتمكن من الخروج من الغابة”.

أُجريت مقابلة مع بول في نويفو لاريدو في مايو/أيار أثناء محاولتها العبور إلى الولايات المتحدة للمرة الثانية. فقد تركت لوكنسيا هايتي منذ سنوات وانتقلت إلى تشيلي قبل أن تقرر التوجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وفي ديسمبر/كانون الأول 2021، وصلت إلى الولايات المتحدة بعد عبور تسعة بلدان والمخاطرة بحياتها بعبورها غابة دارين، وأمضت سبعة أيام في مركز الاحتجاز في الولايات المتحدة قبل أن يتم طردها إلى هايتي”.

وتصف تجربتها قائلة، “في تكساس، نقلوني إلى حافلة والقيود تكبّل يداي وخاصرتي وقدماي. فكرت في الرحلة التي خضتها وبالتضحيات التي قدمتها، وكيف أنهم يعاملونني كالمجرمة بعد كل ما قاسيت”.

وفي هايتي، شجعتها عائلتها على محاولة العبور إلى الولايات المتحدة من جديد.

وتقول، “شعرت بالسعادة عندما التقيت بهم، لكن الوضع كان حزينًا أيضًا. شعرت وكأنني أحضر عزاء أحد ما بسبب سوء الوضع في هايتي. نصحني الجميع بألا أبقى في البلد، وأن أفعل ما بوسعي لكي أعود بسرعة، فلا شيء يتوفر في هايتي. أفكر فقط في حجم الألم الذي سأشعر به إذا عدت إلى بلدي ولم أتمكن من الشعور بالسعادة عند تواجدي مع عائلتي بسبب سوء الوضع”.

تدعو أطباء بلا حدود بصورة متكررة إلى إنهاء العمل بالفصل 42 وإيقاف رحلات الطرد إلى هايتي لدواعٍ إنسانية. فهايتي تمر بأزمة إنسانية واقتصادية وسياسية. والمعارك مفتوحة في شوارعها، كما ترتفع أعداد الجرحى والقتلى فيها باستمرار، لا سيما بسبب تعرضهم للرصاصات الطائشة. كما تجدر الإشارة إلى أن الكثير من الهايتيين لا يستطيعون الوصول إلى الرعاية الطبية والاحتياجات الأساسية على غرار المياه النظيفة.

لا يجوز لأي بلد في العالم أن يعيد الأشخاص إلى هايتي. ولا بد من أن توقف الولايات المتحدة جميع رحلات الترحيل بصورة دائمة وأن تسهل وصول الهايتيين إلى إجراءات اللجوء.

مستشفى على قضبان.. مشاهدات من رحلتي على متن القطار الطبي في أوكرانيا

مستشفى على قضبان.. مشاهدات من رحلتي على متن القطار الطبي في أوكرانيا

بقلم*: ياسر كمال الدين

بدأت كتابة هذه الخواطر بعد مرور شهر على إنهاء مهمتي وعودتي إلى القاهرة، وقد أتاحت لي هذه المدَّة إعادة ترتيب أفكاري واسترجاع الأحداث التي شهدتُها على مدار الأسابيع الخمسة التي أمضيتها في أوكرانيا. كانت هذه المهمة من أقصر المهمات التي عملت فيها بالميدان خلال قرابة العشر سنوات التي أمضيتها في مجال العمل الإغاثي، إلاَّ أنها رغم قصرها كانت الأغنى بالأحداث على الاطلاق.

في الثالث عشر من شهر مايو، وصلت إلى مدينة لفيف غرب أوكرانيا، بعد رحلة طويلة، سافرت خلالها من القاهرة إلى العاصمة البلجيكية بروكسل، ومنها لبولندا، ثم أكملت الرحلة براً إلى غرب أوكرانيا، وأنا أفكر في القطار الطبي الذي قرأت وسمعت عنه كثيراً في الأسابيع السابقة لالتحاقي بالبعثة. يعمل هذا القطار الطبي – الذي هو الأول من نوعه لمنظمة أطباء بلا حدود – على نقل المرضى من المستشفيات الأوكرانية المثقلة بالأعباء بسبب قربها من مناطق الحرب النشطة إلى المستشفيات البعيدة عن القتال التي تتوفر فيها القدرة الاستيعابية اللازمة. لم أكن قد رأيت مثيلاً له خلال عملي في المجال الإغاثي سواء في مناطق النزاع المسلح أو غيرها. تسميات عدَّة أطلقت عليه، “القطار الطبي” و”مستشفى على قضبان” و”كبسولة الهروب” ما حمسني لخوض هذه التجربة كأنها أول مهمة ميدانية لي.

لفيف مدينة صغيرة جميلة، تقع بالقرب من الحدود الغربية لأوكرانيا مع بولندا، بدا الجو العام فيها هادئاً جداً ولا يعكس المشهد فيها خطورة الحرب. رأيت المارة في الشوارع يتجولون بين المطاعم والمتاجر كأن ما من تأثيرٍ على سكان هذه المدينة. توجست من هذا الهدوء الخادع، ولم يكد ينتهي اليوم حتى سمعت دوي صافرات الإنذار في كل أرجاء المدينة مبشرة باحتمال وقوع غارة جوية روسية. توقفت المطاعم عن خدمة زبائنها وأغلقت أبوابها واتجه بعض المارة بهدوء لمنازلهم، بينما أكمل البعض الاخر تجوله في الشوارع غير عابئ بالإنذار.

سبقَ أن عايشت قدرة الشعوب على التكيف مع أهوال الحروب في أماكن أخرى عملت بها مثل أفغانستان والعراق، ولكن كانت أسابيع قليلة قد مرَّت على اندلاع الحرب، فتوقعت وضعاً ً أكثر حدة. ولكن علمت فيما بعد أن سكان المدينة اعتادوا أصوات صافرات الإنذار التي تتكرر بشكل يومي لتنبيه الناس بضرورة إخلاء الشوارع فورًا والاحتماء من غارة محتملة على الرغم من أنَّ لفيف تبعد عن المواجهات اليومية في شرق البلاد أكثر من ألف كيلومتر.

40 إلى 60 ساعة رحلة القطار الطبي في أوكرانيا

بعد تمضية ليلة واحدة في لفيف، اتجهت مع أفراد الفريق لنستقل القطار الشهير. كنت قد علمت أن الفريق يبيت في المدينة بعد كل رحلة ويستغل هذا الوقت للراحة والاستحمام قبل الانطلاق لرحلة إخلاء جديدة. تستغرق الرحلة الواحدة نحو عشرين ساعة من لفيف لمدن الشرق الواقعة على خط المواجهة مثل خاركيف ودنيبرو وبكروفسك. فيما يستغرق مجموع الرحلة الواحدة ذهاباً وإياباً ما بين الـ 40 والـ60 ساعة، وقد تطول المدَّة إنْ كان علينا إرسال المرضى إلى أكثر من وجهة أو تقصر إذا كان الاجلاء من مدن خط المواجهة مباشرة الى لفيف.

قبل وصولي إلى أوكرانيا، سمعت من زملائي في بروكسل عن امتلاك هذا البلد لشبكة من أعقد وأكبر شبكات القطار في القارة بأكملها. وكانت فكرة هذا النشاط الإغاثي بسيطة وعبقرية في الوقت نفسه، فهو يعتمد على قطار عادي من الخارج، لا يوحي بأي شيء غير اعتيادي، شكله متطابق مع قطارات الركاب الكثيرة، ولكنه يحتوي من الداخل على تجهيزات تمكن الفريق الطبي من نقل نحو ٣٠ مريضاً ومريضة من من شرق البلاد إلى غربها والعكس.

“البابوشكات” يواجهنَ كل يوم تأثير الحرب على حياتهن

يضمُّ القطار أطباءً وطاقماً تمريضاً وأخصائياً لوجستياً ومترجمة بالإضافة اليّ أنا كمنسقاً ميدانياً. كان جزء من الفريق يستريح في لفيف حين يعمل ما بين ١٨ و٢١ فرد من باقي الفريق على القطار كل رحلة.

كان القطار بمثابة مستشفى صغير متنقل، مجهَّز بـ ٣٠ فراشاً طبياً معدين لرعاية المرضى خلال الرحلة الطويلة، فيما طوَّر الفريق اللوجستي لأطباء بلا حدود عربة كاملة لتصبح وحدة رعاية مركزة تتسع لخمسة مرضى من ذوي الحالات الحرجة مع معظم التجهيزات المتواجدة في وحدات الرعاية في المستشفيات مثل شبكة كاملة لإنتاج وتوصيل الاوكسجين وجهازان للتنفس الصناعي.

تبدأ التجهيزات للرحلة بإخطار من وزارة الصحة الأوكرانية والمستشفيات الواقعة بالقرب من خط المواجهة، على أن تتبعها زيارة استطلاعية من أحد زملائنا الأطباء المقيم في مدينة قريبة من الاحداث. نحصل على عدد تقريبي للحالات المطلوب نقلها لغرب أوكرانيا مع وصف عام للوضع الصحي واحتياجات هؤلاء المرضى الذي قد ينقص أو يزيد عددهم خلال الرحلة. كان هذا الكم من المعلومات كافياً لإخطار الفريق للاستعداد لرحلة جديدة. كنا نجتمع في محطة القطارات قبل موعد الرحلة بنصف ساعة لنستقل القطار الطبي فور وصوله. كانت رحلة الذهاب مخصصة لتجهيز القطار والاستعداد لاستقبال المرضى في كافة مقصورات القطار الخمس المخصصة للمرضى.  فيما كان كل اثنان او ثلاث من طاقم الفريق يتشاركون مقصورة المعيشة نفسها في الليلة الأولى من الرحلة، مدركين أنَّ الليلة التالية ستكون خالية من الراحة لأن الطاقم الطبي يتقاسم ساعات العمل الليلية للإشراف على المرضى. باختصار، كان النوم صعباً طوال الرحلة!

ولكن، كان فريق القطار من أروع من عملت معهم في مسيرتي المهنية، أغلبهم يعمل في وظيفة أخرى توقف عن أدائها مؤقتا ليلحق بالقطار الطبي الذي يساعد في تقديم الخدمات الطبية. شعرت من محادثاتي مع أفراد الفريق ان سبب وجودهم على متن القطار نابع من يقينهم بأنَّ لكل شخص دوراً في مجتمعه وقت الكوارث. يفخر أفراد الفريق بدورهم في الحرب على الرغم من صعوبته وخطورته. وكان يصدف أكثر من مرة أن يلتقي أحد افراد الفريق بشخص من مسقط رأسه يتم إخلائه بواسطة القطار الطبي أو يعلم بأنَّ له معارف وأصدقاء مشتركون بينه وبين أحد المرضى. أغلب أفراد الفريق كانوا بدورهم متأثرين بالحرب ونازحين هم أو أهلهم من مدنهم وقراهم لاماكن أكثر امانا. كان القطار مسرحاً يومياً للقصص الإنسانية المشتركة بين الأطباء والممرضين والمرضى طوال رحلة الاخلاء.

خلال وجودي تمكنا من إخلاء نحو ٢٠٠ مريض ومريضة أغلبهم مصابو حرب جراء انفجارات او شظايا. كان يطلق الفريق على أغلب مرضانا تسمية «بابوشكا»، أي الجدة باللغتين الروسية والاوكرانية. في كثير من الأحيان كنا نعود بقطار مليء بالـ«بابوشكات»! هؤلاء الجدات كنَّ يقاومن كل يوم تأثير الحرب على حياتهن. أغلبهن كن يرفضن ترك منازلهن منذ بدء الحرب ولكنهن اضطررنَ لتركها كمرضى بعد الإصابة. في تلك الفترة، نزح اغلب سكان القرى القريبة من خط النيران وبقي من لا يملك من الأموال ما يكفي للرحيل ولا أقرباء خارج القرية لاستضافته، هذا إضافة إلى أنَّ أغلب الـ«بابوشكات» رفضنَ ترك مكان ولادتهن. قالت لي إحداهن «سوف أعود لمنزلي في أقرب وقت ممكن، لم أكن اريد ترك بيتي أبداً و لكني الآن مضطرة لذلك”.

ساق مقابل أرنب

قص عليَّ بعض المرضى كيف غيرت الحرب حياتهم وأخبار أحبائهم الذين خسروا حياتهم بسبب الحرب. أحد المرضى كان عامل بناء في أواخر الأربعينيات من عمره من سكان إحدى القرى في شرق مدينة خاركيف، كان قد فقد أباه وأمه قبل الحرب وبقي وحده في منزله. لم يكن لديه سبب لترك منزله الصغير حتى مع اقتراب الاشتباكات ودوي الصواريخ. لم يكن لديه زوجة أو طفل يخاف عليهم وكان منزله وقطعة الأرض الصغيرة أمامه كل ما يملك في هذه الحياة. سمع دوياً قريباً ذات يوم، ثم آخر أقرب وبعده دوي انفجار أطاح به عدة أمتار وكسر ذراعيه. استرسل وهو يخبرني تفاصيل ما جرى معه وكأنها قصة شخص آخر. “لم أكن أعلم ما ينبغي علي فعله للاحتماء من القذائف. كنت قد رأيت كيف لقيَ جيراني حتفهم، اب وام و٤ أطفال، وهم محتمون بقبو منزلهم. دفنتهم القذائف تحت الأنقاض. لم أكن أعلم إذا كنت آمناً في العراء، ولكني كنت متيقن من أني لا اريد لنفسي نهاية تشبه مأساة تلك الأسرة». مريضة أخرى من مصابي الحرب مازحتني وهي على الفراش وإحدى ساقيها مبتورة والساق الأخرى مصابة جراء التعرض المباشر لانفجار والإصابة بشظايا: “كنت أُحضر أرنباً من الحظيرة لتجهيز وجبة العشاء لأصدقائي، كان هذا أغلى أرنب في حياتي، أرنب واحد مقابل ساق”. ابتسمت على الرغم من الألم الواضح على معالم وجهها بالرغم من مسكنات الألم. كان أبوها السبعيني يرافقها في الرحلة وينظر اليها بمزيج من الحزن والفخر وهي تروي لي كيف انتهى بها الحال على متنِ هذا القطار. قال لي بعيداً عن ابنته «سوف تعبر تلك الأزمة، انها امرأة قوية، لقد ورثت صلابتها مني».

العمل على مساعدة الأشخاص الأكثر حاجة أينما كانوا

كعامل إغاثة، أفكِّر دوماً في حال المحتاجين للمساعدات الإنسانية على جانبَي النزاع في بلدانِ كثيرة من حول العالم. لطالما واجه العمل الإنساني هذا التحدي، أي أن يكون قادراً على إيصال المساعدات الانسانية الضرورية للمحتاجين بغض النظر عن العرق او الدين او الانتماء السياسي في الحروب.

في سياق الحرب الروسية الأوكرانية، وعلى الرغم من تواجد أطباء بلا حدود في روسيا منذ عام ١٩٩٢، وحتى كتابة هذه السطور لا تستطيع فرق المنظمة الوصول للناس المتواجدين في مناطق سيطرة روسيا والمجموعات المدعومة من روسيا في أوكرانيا. في أماكن عدة حول العالم تضيق باستمرار مساحة العمل الاغاثي خلال الحروب، أي أن تكون قادراً على الوصول للمحتاجين وإنقاذ أراوح المتضررين من النزاعات المسلحة من دون تمييز.

الوداع

خمسة أسابيع أمضيتها في هذه البعثة، قبل أن أبدأ بترتيب اشيائي للعودة للقاهرة. ذهبت ليلة سفري لحضور حفل صغير أعده فريق القطار لتوديعي وشاركتهم شعوري، كيف كان لكلٍ منهم تأثير على رؤيتي لواقع المعاناة من جراء الحرب، وكيف انبهرت من الروح الرائعة السائدة بين أفراد الفريق على متنِ القطار.

على الرغم من بعد المسافة بين مصر وأوكرانيا، الا ان الحرب في أوكرانيا كانت موضع اهتمام جميع وسائل الاعلام بلا استثناء. وانا أجهز نفسي للعودة خطرت في بالي أسئلة كثيرة، كيف لكافة التحليلات الجيوسياسية، وتفاصيل أسباب اندلاع الحرب وتأثيراتها من عضوية الناتو وتجارة النفط لرغيف الخبز، أن تفسر المعاناة والقصص الإنسانية التي عاشها الاشخاص الذين قابلتهم على متنِ القطار، لم أصل لإجابة! سأكتفي بالذكريات الطيبة التجربة الثرية والعلاقات الإنسانية التي سأحتفظ بها بعد هذه البعثة. وها أنا أودِّع الفريق وأعود إلى أرض الوطن في انتظار مهمة جديدة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  ياسر كمال الدين صيدلي وعامل إغاثة من مصر، انضم لأطباء بلا حدود عام 2012 وعمل في مجال إدارة العمليات الإغاثية كمنسق مشروع ورئيس بعثة في بعثات مختلفة، منها مصر، لبنان، العراق، افغانستان، سوريا، اليونان، كينيا وأوكرانيا. يشغل حاليا منصب رئيس بعثة أطباء بلا حدود في مصر. حصل ياسر على درجة البكالوريوس في الصيدلة من جامعة القاهرة والماجستير في الأنثروبولوجيا من جامعة كوليدج لندن.

أهل غزة: المعاناة المستمرة؟

أهل غزة: المعاناة المستمرة؟

تقيّم فرق أطباء بلا حدود في الميدان آثار الغارات الجوية الإسرائيلية على النظام الصحي وقد تبرعت بالمواد الصيدلانية لغرف العمليات وغرف الطوارئ في مستشفيات غزة.

هذا وعطّل إغلاق المعابر الحدودية منذ 2 أغسطس/آب دخول الأدوية والإمدادات الطبية الأساسية إلى المنطقة. وأسفر الإغلاق عن نقص حاد قي الوقود، ما قد يترك تداعيات جسيمة على إمدادات المياه النظيفة والقدرة على الوصول إلى الخدمات الأساسية وعلى عمل البنى التحتية للرعاية الصحية.

Médecine donations following airstrike
من خلال هذه السلسة القصيرة التي تتألف من 4 حلقات، يصف عبد الله وأسيل ونرمين وشمس وياسمين حياتهم اليومية كمراهقين في ظل الحصار والاحتلال.

فيروس التهاب الكبد C؟

فيروس التهاب الكبد C؟

يقدّر عدد المصابين بفيروس التهاب الكبد سي بحوالي 58 مليون شخص حول العالم. ورغم أن التهاب الكبد الفيروسي سي يعد مرضًا يمكن الشفاء منه، إلا أنّ ملايين المصابين لا يستطيعون الحصول على العلاج المناسب بسبب ارتفاع أسعاره، مما يؤدي إلى وفاة مئات الآلاف كل عام نتيجة مضاعفات في الكبد.
تعاني باكستان من ثاني أعلى معدل للإصابة بهذا الفيروس في العالم. ومنذ عام 2015، تدير منظمة أطباء بلا حدود برنامجًا لمعالجة التهاب الكبد الوبائي سي في عيادتها في مجمّع مشار كولوني السكني غير الرسمي في كراتشي.
Published on اب 10, 2022

انفجار مرفأ بيروت…جرح قد لا يلتئم أبدا

انفجار مرفأ بيروت…جرح قد لا يلتئم أبدا

بعد انفجار 4 آب، لبّت فرقنا احتياجات طبية ونفسية كتيرة وضمّدنا جروح عدد كبير من المصابين، ولكن في جروح بقلوب الناس يمكن ما منقدر نوصلها.

Published on اب 4, 2022

مقابلة مع زميلنا ماريو فواز منسق التواصل الإعلامي لأنشطة منظمة أطباء بلا حدود في أوكرانيا

مقابلة مع زميلنا ماريو فواز منسق التواصل الإعلامي لأنشطة منظمة أطباء بلا حدود في أوكرانيا

شاهدوا جلسة أسئلة وأجوبة مع زميلنا ماريو فواز منسق التواصل الإعلامي لأنشطة منظمة أطباء بلا حدود في أوكرانيا ليخبرنا عن تجربته من الميدان!

Published on تموز 20, 2022

ما هو التواصل الميداني؟

ما هو التواصل الميداني؟

لا يعرف الكثيرون أنّ العمل الإعلامي جزء مهم وأساسي من عمل أطباء بلا حدود إذ يسلّط الضوء على أنشطتنا وعلى معاناة الناس وقصصهم. تعرّفوا إلى دور العاملين في التواصل الميداني مع زميلنا ماريو فواز.

Published on تموز 8, 2022